
هل يمكن لمشروع بنية تحتية أن يغير حياتك؟ قد يبدو السؤال عاطفياً، لكن الإجابة تكمن في صميم التحول الاقتصادي الهائل الذي تشهده منطقة الخليج العربي.
تخيل مجتمعاً كان يعتمد على السياحة الموسمية، يعمل لشهرين فقط في السنة الآن، تخيل إطلاق مشروع جديد في هذا المجتمع.
هذا المشروع ليس مجرد منتجع آخر، بل هو “مشروع عمراني متكامل” مصمم ليكون “مجتمعاً عمرانياً دائماً طوال العام”.
هذا هو الوعد الحقيقي لمشروع “علم الروم” في مصر، وهو نموذج شراكة ضخم بين مصر وقطر يهدف لإضافة آلاف الغرف الفندقية وخلق مجتمع مستدام يهدف لجذب الملايين بحلول 2030.
هذا هو الوعد الحقيقي للشراكة الفعالة بين القطاعين العام والخاص، عندما يتم تصميمها بشكل صحيح، فإنها لا تبني جسوراً من الخرسانة أو تضيف غرفاً فندقية فحسب، بل تبني أيضاً “مساحات صديقة” و “فعاليات مجتمعية” تعزز “ثقة السكان”.
هذا التحول، من منطقة موسمية إلى مجتمع مستدام، هو جوهر ما يمكن أن تحققه الشراكات.
هذا المقال لا يدور حول العقود والتمويل كمفاهيم مجردة؛ بل هو تحليل لكيفية تطور هذه الأدوات، لتصبح أكثر ذكاءً وابتكاراً، بهدف نهائي واحد: تغيير حياتنا اليومية إلى الأفضل.
من خلال فهم هذه النماذج المبتكرة، يمكنك كقائد أعمال، أو مستثمر، أو صانع سياسات، أن تكتشف كيف أصبحت الشراكة بين القطاعين العام والخاص الأداة الأقوى لبناء مستقبل مستدام ومتنوع، وهو الهدف الأسمى لرؤى المنطقة، بما في ذلك رؤية السعودية 2030.
ما هي الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP)؟
لفهم النماذج المبتكرة، يجب أولاً أن نرسخ فهماً واضحاً للأساسيات، إن مفهوم الشراكة بين القطاعين العام والخاص، في جوهره، هو آلية لتقديم الخدمات العامة تجمع بين قوة القطاع العام وخبرة القطاع الخاص لكن هذا التعريف يغفل عن العنصر الأهم.
التعريف الأكاديمي والعملي
وفقاً لـ “مختبر معلومات الشراكة” (PPP Knowledge Lab) التابع للبنك الدولي، تُعرَّف الشراكة بين القطاعين العام والخاص بأنها “تعاقد طويل المدى بين جهة حكومية وجهة من القطاع الخاص لتنفيذ مشروعات أو تقديم خدمات عامة”.
العنصر الحاسم هنا ليس التمويل بحد ذاته، بل هو نقل المسؤولية بموجب هذا التعاقد، يتحمل القطاع الخاص “جزءاً كبيراً من المخاطر ومسؤولية الإدارة”.
وفي المقابل، يتقاضى القطاع الخاص أتعابه “بما يتناسب مع أدائها” هذا المبدأ الأخير الدفع مقابل الأداء هو حجر الزاوية الذي بُنيت عليه جميع النماذج المبتكرة لاحقاً.
طيف الشراكة: من الاستعانة بمصادر خارجية إلى التمويل الكامل
من الخطأ أن تنظر إلى الشراكة بين القطاعين العام والخاص كنموذج واحد. بل هو “طيف” واسع من الترتيبات.
يمكن أن “تشمل هذه الترتيبات الصور المبسطة للتعاقد الخارجي”، أو “قد تمتد لتشمل نقل أو مشاركة الإدارة، أو عملية صنع القرار”.
في الطرف الأكثر تقدماً من هذا الطيف، يكون للقطاع الخاص دور كامل في “تخطيط، وتمويل، وتصميم، وبناء وتشغيل، وصيانة الخدمات العامة”.
تتضمن الأشكال الشائعة لهذا الطيف ما يلي، كما هو موضح في بوابة حكومة الإمارات العربية المتحدة:
- عقود الخدمة وعقود الإدارة.
- عقود الإيجار وعقود الامتياز.
- البناء والتشغيل ونقل الملكية (BOT): يقوم القطاع الخاص بالبناء والتشغيل لفترة محددة لاسترداد التكلفة، ثم ينقل الملكية إلى الحكومة.
- البناء والتملك والتشغيل ونقل الملكية (BOOT): مشابه لـ BOT ولكن مع تملك القطاع الخاص للأصل خلال فترة العقد.
- البناء والتملك والتشغيل (BOO): يتملك القطاع الخاص الأصل ويقوم بتشغيله إلى أجل غير مسمى.
تُحدد مدة العقد، التي قد تصل إلى “ثلاثين عاماً” أو أكثر، لتمكين الشريك الخاص من استرداد استثماراته وتحقيق عائد معقول.
الأهداف الرئيسية: لماذا تختار الحكومات هذا النموذج؟
تلجأ الحكومات، خاصة في منطقة الخليج التي تشهد طفرة تنموية، إلى نماذج الشراكة لتحقيق أهداف استراتيجية تتجاوز مجرد البناء.
الهدف الأساسي هو “الاستفادة من خبرات وكفاءات القطاع الخاص” وضمان “تمويل لتقديم خدمات ذات جودة متميزة”.
عندما تُصمم هذه الشراكات بشكل جيد وتُنفذ في بيئة تنظيمية متوازنة، يمكنها تحقيق “المزيد من الكفاءة والاستدامة” في توفير الخدمات الحيوية مثل المياه، والصرف الصحي، والطاقة، والنقل، والرعاية الصحية، والتعليم.
الدافع الأساسي وراء هذا التوجه هو الاعتراف المتزايد بـ “عدم قدرة الحكومات على تحقيق التنمية المستدامة بمفردها”، خاصة في مواجهة “محدودية الموارد المالية والبشرية والتكنولوجية”. الشراكات هي إحدى الأدوات الرئيسية لسد هذه الفجوات بكفاءة وفعالية.
نهاية النموذج التقليدي؟ “القيمة مقابل المال” (VfM) في مواجهة الواقع
لعقود من الزمن، هيمنت نماذج مثل (BOT) على مشهد الشراكات، وكان المبدأ الحاكم هو “القيمة مقابل المال” (Value for Money – VfM). لكن هذا النموذج التقليدي واجه انتقادات شديدة أدت إلى ضرورة الابتكار الذي نراه اليوم.
النماذج التقليدية (BOT, BOOT): نظرة فاحصة
في نموذج (BOT) التقليدي، يقوم القطاع الخاص بالبناء والتشغيل لفترة محددة، وبعدها “تنتقل الملكية مرة أخرى إلى القطاع العام”.
كان المقياس الذهبي لنجاح هذه المشاريع هو (VfM). كان هذا التقييم يتضمن عادةً “مقارنة الخيار المختار للشراكة… مقابل ‘المقارن بالقطاع العام’ (PSC)”.
بعبارة بسيطة: هل سيكلف هذا المشروع الحكومة أقل إذا نفذه القطاع الخاص مقارنة بتنفيذه بنفسها؟ هنا بدأ يظهر الخلل.
نقد النماذج التقليدية: إعادة التفاوض والوهم المالي
يكمن الفشل في هذه المقارنة البسيطة. أشار البنك الدولي إلى أن الفشل غالباً ما ينجم عن “الانحراف عن الخصائص المحددة للشراكة”، مثل التوزيع غير الواضح للمخاطر.
في الواقع، تميزت موجة الشراكات الكبرى في أمريكا اللاتينية “بمعدل عالٍ جداً من إعادة التفاوض”.
لم تكن عمليات إعادة التفاوض هذه دائماً بريئة؛ بل كانت في كثير من الأحيان “محاولات انتهازية من قبل المقاولين الخاصين لزيادة الأرباح”.
وهنا يكمن نقد أساسي: “من خلال الشراكات، القطاع الخاص لا يمول المشاريع العامة؛ بل يُموِّلها (يُقرضها)”.
أي أن القطاع الخاص يقدم التمويل كقرض، وتكون الحكومة (أو المستخدمون) ملزمة بسداده مع الفوائد.
مدونة صندوق النقد الدولي: مخاطر الشراكة المالية والدروس المستفادة
يقدم صندوق النقد الدولي (IMF) النقد الأكثر حدة يحذر الصندوق من أن العديد من الحكومات استخدمت الشراكات “ليس لأسباب الكفاءة، ولكن لـ ‘الالتفاف على قيود الميزانية’ وتأجيل تسجيل التكاليف المالية”.
وهذا ما يُعرف بـ “الوهم المالي” (Fiscal Illusion) يسمح إطار (VfM) التقليدي للحكومة بإخفاء الديون.
فالمشروع الذي يكلف مليار دولار اليوم (يُسجل في الميزانية) يبدو باهظ التكلفة، في حين أن نفس المشروع بهيكل شراكة يكلف 100 مليون دولار سنوياً لمدة 25 عاماً (يُسجل كالتزام مستقبلي خارج الميزانية) قد يبدو وكأنه “قيمة مقابل المال”.
لكنه في الواقع نفس التكلفة، مدفوعة إلى المستقبل، مع “تعريض المالية العامة لمخاطر مالية مفرطة”.
تنشأ المشكلة من صعوبة تقييم “نقل المخاطر”، وما يزيد الطين بلة، أنه لا توجد حتى الآن “معايير محاسبية مالية شاملة” للإبلاغ عن التزامات الشراكة هذه.
هذا النقص في الشفافية والفشل في تقييم المخاطر بشكل صحيح هو ما مهد الطريق لظهور جيل جديد من النماذج المبتكرة.
| الميزة | النموذج التقليدي (مثل BOT) | العقود القائمة على الأداء (PBC) | التمويل المختلط (Blended Finance) | سندات التأثير الاجتماعي (SIB) |
|---|---|---|---|---|
| آلية التمويل | تمويل خاص بالكامل (ديون/أسهم) | مدفوعات حكومية (مدفوعات الإتاحة) | مزيج من رأس المال الخاص والتجاري + رأس مال عام/ميسر | رأس مال خاص مقدم (استثمار مخاطر) |
| توزيع المخاطر | يتم نقل مخاطر البناء والتشغيل إلى القطاع الخاص | يتم نقل مخاطر الأداء والجودة طوال دورة الحياة إلى القطاع الخاص | يتم “تخفيف المخاطر” عن القطاع الخاص باستخدام التمويل الميسر كضمان | يتم نقل مخاطر *النتائج الاجتماعية* بالكامل إلى المستثمر الخاص |
| مؤشر النجاح (الدفع مقابل…؟) | إتاحة الأصل (مثل: “الطريق مفتوح”) | جودة الخدمة (مثل: “الطريق عند مستوى نعومة X”) | الجدوى المالية للمشروع (جذب رأس المال الخاص) | تحقيق النتائج الاجتماعية (مثل: “انخفاض العودة للجريمة بنسبة Y٪”) |
| النموذج الفكري | القيمة مقابل المال (VfM) | VfM مُحسَّن (قيمة دورة الحياة) | تحقيق الجدوى (سد الفجوة) + القيمة من أجل الكوكب (VfPL) | القيمة من أجل الناس (VfP) |
الجيل الجديد: تحليل النماذج المبتكرة للشراكة بين القطاعين العام والخاص
استجابةً لإخفاقات وقيود النماذج التقليدية، ظهر جيل جديد من هياكل الشراكة. هذه النماذج ليست مجرد تعديلات، بل هي تحولات جوهرية في كيفية تعريف “القيمة” وتوزيع “المخاطر”.
النموذج الأول: العقود القائمة على الأداء (Performance-Based Contracts) – الدفع مقابل النتائج
يمثل هذا النموذج “تحولاً كبيراً بعيداً عن الأساليب التقليدية” وهو التطور المنطقي الأول للوعد الأصلي للشراكة (“الدفع بما يتناسب مع الأداء”).
الآلية: كيف يتم ربط التمويل بجودة الخدمة؟
في النموذج التقليدي، قد يتم الدفع لك كمقاول مقابل “المدخلات” (مثل كمية الخرسانة) أو “المخرجات” (مثل الانتهاء من بناء الطريق).
أما في العقود القائمة على الأداء (PBCs)، فيتم الدفع لك مقابل “النتائج”.
يتم تعريف “مدفوعات الإتاحة” (Availability Payments) وربطها بشكل صارم بـ “جودة محددة تعاقدياً” و “مقاييس أداء قابلة للقياس”.
التحول في المسؤولية هائل: ينتقل التركيز من “تصميم العميل وإشرافه” (حيث تحدد الحكومة كيفية القيام بالعمل) إلى التركيز على “النتائج الرئيسية التي يرغب العميل في تحقيقها” (حيث تحدد الحكومة ما يجب تحقيقه، وتترك الكيفية للقطاع الخاص).
يجبر هذا النهج الشريك الخاص على التفكير في “التكلفة على مدى الحياة الكاملة” (whole-life costing)، لأنه سيكون مسؤولاً عن الصيانة طويلة الأجل.
مؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs): قياس النجاح في قطاعات كالمياه والطرق
لجعل هذا النموذج يعمل، يجب أن تكون مؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs) واضحة وقابلة للقياس.
يوفر دليل موارد التعاقد القائم على الأداء (PBC Resource Guide) وثائق عملية “لتصميم وثائق العطاء والعقد”.
على سبيل المثال، في قطاع الطرق، بدلاً من الدفع لك كمقاول لإصلاح عدد معين من الحفر (مدخلات)، يتم الدفع لك للحفاظ على الطريق عند مستوى معين من النعومة والسلامة (نتائج) أنت تتقاضى أجرك طالما أن الطريق يؤدي وظيفته بشكل جيد.
دراسة حالة: تقليل فاقد المياه (Non-Revenue Water)
تعد إدارة المياه مجالاً رئيسياً لتطبيق هذا النموذج بدلاً من الدفع لشركة لتركيب 10,000 عداد مياه جديد (مخرجات)، يتم الدفع للشركة بناءً على الانخفاض الفعلي والمقاس في فاقد المياه (نتيجة).
هذا يحفز الشركة على إيجاد الحل الأكثر كفاءة لتحقيق النتيجة – سواء كان ذلك بإصلاح التسريبات، أو تحسين الضغط، أو تركيب العدادات.
النموذج الثاني: التمويل المختلط (Blended Finance) – تحفيز رأس المال الخاص
يعد التمويل المختلط هو “الترياق” المباشر لـ “الوهم المالي” الذي انتقده صندوق النقد الدولي. فبدلاً من إخفاء فجوات الجدوى المالية، يقوم هذا النموذج بتحديدها و معالجتها بشفافية.
شرح الآلية: كيف يجذب “التمويل الميسر” الاستثمار؟
يُعرَّف التمويل المختلط بأنه “يجمع بين التمويل الميسر والتمويل التجاري” الهدف هو “تخفيف المخاطر” (De-risking) من أجل “جذب” (crowd-in) رأس المال الخاص إلى المشاريع التي لولا ذلك لاعتبرت محفوفة بالمخاطر.
“التمويل الميسر” (Concessional Finance) هو العنصر السحري وهو تمويل بشروط “أكثر ملاءمة من تلك المتاحة في السوق”، مثل “قروض بأسعار فائدة أقل من السوق”، أو فترات سماح أطول، أو منح.
يأتي هذا التمويل عادةً من الحكومات، أو بنوك التنمية متعددة الأطراف (MDBs)، أو المؤسسات الخيرية.
دور بنوك التنمية متعددة الأطراف (MDBs) في “تخفيف المخاطر”
تلعب بنوك التنمية متعددة الأطراف دوراً محورياً، تستخدم هذه البنوك أدوات متنوعة “لتخفيف المخاطر” عنك كمستثمر تجاري، تشمل:
- القروض الميسرة: تقديم قروض بشروط غير تجارية.
- ضمانات المخاطر: مثل “حماية الخسارة الأولى” (First-Loss Protection)، حيث يوافق البنك الميسر على تحمل الخسائر الأولى في المشروع، مما يجعل الاستثمار آمناً للغاية للمستثمرين التجاريين الذين يأتون بعده.
- المساهمات في الأسهم: أخذ حصة في المشروع بشروط أقل من السوق.
هذا النموذج، الذي يطلق عليه البنك الدولي أحياناً “الشراكات الهجينة” (Hybrid PPPs)، يبدأ بالاعتراف بأن المشروع “سليم اقتصادياً ولكنه يواجه تحديات مالية”، ويستخدم التمويل الميسر بشفافية لسد هذه الفجوة.
تحليل بيانات: نمو وحجم أسواق التمويل المختلط
هذا النموذج ليس نظرياً. تُظهر بيانات مؤسسة التمويل الدولية (IFC) وحدها أن 5.9 مليار دولار من أموال المانحين الميسرة نجحت في دعم 539 مشروعاً و “جذبت 32.6 مليار دولار من التمويل الإضافي”.
على الصعيد العالمي، تُظهر البيانات نمواً سنوياً في أنشطة التمويل المختلط، حيث تم حشد 208 مليار دولار من رأس المال.
النموذج الثالث: سندات التأثير الاجتماعي (Social Impact Bonds – SIBs) – الاستثمار في التغيير المجتمعي
إذا كانت العقود القائمة على الأداء هي تطور لتمويل الأصول، فإن سندات التأثير الاجتماعي هي ثورة في تمويل الخدمات الاجتماعية.
إنها تأخذ آلية الشراكة (نقل المخاطر، التمويل الخاص) وتطبقها على قطاع جديد تماماً: النتائج البشرية.
آلية “الدفع مقابل النجاح” (Pay-for-Success) ومن هم الأطراف؟
تُعرف أيضاً باسم “عقود النتائج الاجتماعية”، وهي “أداة مالية” يلتزم فيها المستثمرون بتحقيق “نتائج اجتماعية مُحسنة”.
آلية “الدفع مقابل النجاح” هي جوهر النموذج، وتتطلب ثلاثة أطراف رئيسية:
- المستثمر (Investor): (مثل مؤسسة خيرية أو بنك استثماري) يقدم التمويل الأولي “المعرض للخطر” (at-risk).
- مقدم الخدمة (Service Provider): (عادة منظمة غير ربحية متخصصة) يتلقى التمويل وينفذ البرنامج على الأرض.
- دافع النتائج (Outcomes Payer): (عادة جهة حكومية) يحدد النتائج المطلوبة، ويوافق على سداد التمويل للمستثمر فقط “إذا وفقط إذا” تم تحقيق تلك النتائج الاجتماعية المحددة مسبقاً وقياسها.
هذا هو “نقل حقيقي للمخاطر”. إذا فشل المخطط في تحقيق أهدافه، “الحكومة لن تدفع”، والمستثمر يخسر أمواله.
وهذا يتناقض بشكل صارخ مع الشراكات التقليدية في البنية التحتية حيث غالباً ما “امتصت الحكومة نسبة كبيرة من الخسائر” عند فشل المشاريع.
| الطرف المعني | الدور في النموذج | تدفق التمويل (ماذا يقدم؟) | الحافز / المخاطرة |
|---|---|---|---|
| المستثمرون | ممول المخاطر | يقدم رأس المال الأولي (المعرض للخطر) | الحافز: عائد مالي + تأثير اجتماعي. المخاطرة: خسارة كامل الاستثمار إذا لم تتحقق النتائج. |
| الحكومة (دافع النتائج) | مشتري النتائج | تحدد النتائج وتدفع فقط عند النجاح | الحافز: تحقيق نتائج اجتماعية مثبتة، وتوفير في التكاليف، وعدم الدفع مقابل الفشل. المخاطرة: لا توجد مخاطرة مالية أولية. |
| مقدمو الخدمة | الخبير المنفذ | يتلقى التمويل الأولي لتشغيل البرنامج | الحافز: الحصول على تمويل مرن وطويل الأجل للابتكار. المخاطرة: السمعة، والحاجة إلى إثبات الأداء. |
دراسة حالة رائدة: سندات بيتربورو لخفض العودة للجريمة
المثال الأكثر شهرة هو أول SIB في العالم، والذي تم إطلاقه في بيتربورو، المملكة المتحدة، عام 2010.
- المشكلة: كانت نسبة العودة للجريمة (reoffending) بين السجناء ذوي الأحكام القصيرة كارثية، حيث بلغت حوالي 60٪.
- الهدف: خفض معدلات العودة للجريمة بنسبة 7.5٪ مقارنة بمجموعة ضابطة.
- النتيجة: نجح المشروع في “خفض العودة للجريمة بنسبة 9٪”.
- العائد المالي: نتيجة لهذا النجاح المثبت، حصل المستثمرون الـ 17 على “رأس مالهم الأولي بالإضافة إلى عائد يزيد قليلاً عن 3٪ سنوياً”.
هذا يثبت أن النموذج يعمل: عندما تم تحقيق النتيجة الاجتماعية، حقق المستثمرون ربحاً. لو فشل المشروع، لكانوا قد خسروا كل شيء.
النموذج الرابع: الشراكات الرقمية (Digital PPPs) – سد الفجوة التكنولوجية
يمثل هذا النموذج تحولاً ليس فقط في الهيكل، ولكن في “عُملة” الشراكة نفسها.
فبدلاً من أن تكون المساهمة الأساسية للقطاع الخاص هي “رأس المال”، أصبحت “القدرة”.
هيكلة الشراكات الرقمية: من البنية التحتية السحابية إلى البيانات الضخمة
تهدف هذه الشراكات إلى معالجة “الفجوة الرقمية” المستمرة المشكلة مزدوجة: القطاع العام غالباً ما يفتقر إلى الخبرة التقنية، بينما يتجاهل القطاع الخاص “الأشخاص والأماكن غير المجدية مالياً”.
لكن جائحة كوفيد-19 أدت إلى ظهور “شراكات رقمية مبتكرة” (DPPPs) هذه الشراكات الجديدة لا تركز على التمويل، بل على تمكين تدفقات “الموارد الأساسية للعصر الذكي وهي ‘البيانات’، ‘الخوارزميات’، و ‘قوة الحوسبة'” بين القطاعين.
هنا، شريكك الخاص (مثل مايكروسوفت أو جوجل) لا يقدم قرضاً لمدة 30 عاماً، بل يقدم منصته، وبياناته، وقدراته التحليلية.
دراسة حالة: الاستجابة للجائحة ومكافحة المعلومات المضللة
أثناء الجائحة، تم إطلاق برامج رائدة بين منظمة الصحة العالمية (WHO) والحكومات و “عمالقة التكنولوجيا الرقمية”، كما هو مفصل في أوراق الأمم المتحدة. ومن الأمثلة على ذلك:
- شراكة البيانات: تعاونت منظمة الصحة العالمية مع مايكروسوفت لإنشاء “مركز بيانات الصحة العالمي” (World Health Data Hub)، وهو حل بيانات شامل لتبادل المعلومات حول الوباء.
- شراكة الخوارزميات: اتفق عمالقة التواصل الاجتماعي (مثل جوجل وتويتر وفيسبوك) مع حكومة المملكة المتحدة على “حزمة من التدابير لمعالجة المعلومات المضللة حول اللقاحات”، باستخدام خوارزمياتهم للترويج للمعلومات الموثوقة.
- شراكة قوة الحوسبة: عمل البيت الأبيض مع شركة IBM لإتاحة “موارد الحوسبة الفائقة” للباحثين الذين يعملون على إيجاد علاجات محتملة للفيروس.
دراسات حالة من الميدان: كيف غيرت الشراكات المبتكرة حياة المجتمعات؟
إن تحليل النماذج النظرية لا يكتمل بدون النظر إلى تأثيرها الحقيقي على الأرض سواء بالنجاح أو الفشل.
قصص نجاح: من البنية التحتية إلى التنمية البشرية
تساهم الشراكات المصممة جيداً في “تعزيز وتوفير الحاجات الضرورية للتنمية” إن إشراك المجتمع المحلي “يعزز من ثقة السكان ويحفزهم على دعم المبادرات”.
يمكن أن يكون هذا التأثير ملموساً وبسيطاً، مثل “تحسين الصرف الصحي”، أو “حماية مصادر المياه”، أو “التخضير والتشجير”، أو “بناء نقاط المياه ومساحات التعلم”.
وتأتي قصص النجاح الأكثر إلهاماً من نماذج سندات التأثير الاجتماعي ففي مقاطعة إسيكس (Essex) بالمملكة المتحدة، ساعدت إحدى سندات SIB على “منع أكثر من 140,000 يوم رعاية” وهو مقياس كمي يعني أن آلاف الأطفال قضوا وقتاً أطول مع عائلاتهم بدلاً من الرعاية المؤسسية.
وفي الكاميرون، عملت “سندات التأثير الإنمائي” (DIB) على “تحسين بقاء حديثي الولادة”.
حالة “مشروع علم الروم”: نموذج للشراكة العمرانية المتكاملة
يُظهر مشروع “علم الروم”، وهو شراكة بين مصر وشركة الديار القطرية، نموذجاً مبتكراً للتنمية الإقليمية.
الابتكار هنا لا يكمن في الآلية المالية بقدر ما يكمن في الهدف الاستراتيجي.
المشروع ليس مجرد شق سياحي، بل هو “مشروع عمراني متكامل يشمل جميع الخدمات”.
التأثير البشري المباشر هو “إنشاء مجتمع عمراني دائم طوال العام” و “استيعاب الكثافة السكانية”.
هذا يعني تحويل منطقة بأكملها من الاعتماد على الاقتصاد الموسمي إلى اقتصاد دائم، مما يخلق فرص عمل مستدامة ويحسن جودة الحياة لآلاف الأسر.
إنه نموذج يمكن تطبيقه في المشاريع العملاقة التي تهدف إلى بناء مجتمعات جديدة من الصفر.
عندما تفشل الشراكات: تحليل الأسباب الجذرية للفشل
على الرغم من قصص النجاح، “لا تزال تجارب الدول النامية تتميز بعدم الفعالية” في كثير من الأحيان الفشل ليس نادراً، وأسبابه متكررة.
وفقاً لتحليل البنك الدولي، تشمل الأسباب الجذرية للفشل “التصميم السليم غير الكافي”، “المشتريات الضعيفة”، و “إعادة التفاوض المتكررة” الانتهازية.
في كثير من الأحيان، “تصاميم عقود الشراكة وهياكل التعريفات التي تفشل في إفادة… أصحاب المصلحة الرئيسيين” تؤدي في النهاية إلى “انهيار المشاريع”.
قطاع التعليم هو مثال حساس على الرغم من أن الشراكات يمكن أن توفر بنية تحتية للمدارس، “تظل الدولة هي الضامن والمنظم للحق في التعليم”.
يحدث الفشل عندما “تعرقل الشراكات الوصول إلى التعليم الجيد للجميع بالمجان”، أو عندما تفشل الدولة في “تنظيم ومراقبة هذه الشراكات” بشكل فعال.
المستقبل: ما بعد “القيمة مقابل المال” (VfM)
إن تطور نماذج الشراكة من (BOT) إلى (SIBs) و (DPPPs) ليس مجرد ابتكار تقني؛ إنه يعكس تحولاً أعمق في الغرض من هذه الأدوات.
نحن ننتقل من التركيز على التكاليف إلى التركيز على القيمة الحقيقية.
التحول الحتمي: “القيمة من أجل الناس” (VfP) و”القيمة من أجل الكوكب” (VfPL)
يقدم البنك الدولي إطاراً جديداً للمستقبل. يجادل بأن نهج “القيمة مقابل المال” (VfM) التقليدي لم يعد كافياً.
بدلاً من ذلك، “يحتاج أيضاً إلى النظر في ‘القيمة من أجل الناس’ (VfP) و ‘القيمة من أجل الكوكب’ (VfPL)”.
لماذا هذا التحول ضروري؟ لأنه مطلوب لمعالجة “التكلفة الإضافية للموارد” اللازمة لـ “التأقلم مع المستقبل” (future-proofing) وتحقيق “نتائج أهداف التنمية المستدامة” (SDG).
إذا استمر تقييم المشاريع على أساس التكلفة قصيرة الأجل (VfM) فقط، “سيتردد العديد من أصحاب المصلحة… بدلاً من التركيز على فوائد المشروع طويلة الأجل”.
لا يمكن تمويل مشروع للطاقة الشمسية (VfPL) أو برنامج لإعادة تأهيل المشردين (VfP) بنفس منطق تمويل جسر تقليدي.
خاتمة: الشراكة بين القطاعين العام والخاص كأداة لتحقيق التنمية المستدامة
إن إطار (VfM + VfP + VfPL) الذي اقترحه البنك الدولي ليس مجرد اقتراح نظري للمستقبل؛ بل هو في الواقع وصف دقيق لما تفعله النماذج المبتكرة التي تم تحليلها في هذا التقرير.
- العقود القائمة على الأداء (PBCs) هي الشكل الأكثر تطوراً لـ VfM، حيث تضمن القيمة من خلال ربط الدفع بجودة الأداء على مدى دورة حياة المشروع.
- سندات التأثير الاجتماعي (SIBs) هي التعريف الحرفي لـ VfP، حيث أن مقياس النجاح الوحيد هو تحقيق نتائج اجتماعية إيجابية للناس.
- التمويل المختلط (Blended Finance) أصبح الأداة الرئيسية لتحقيق VfPL، حيث يتم استخدامه بشكل متزايد لـ “تخفيف مخاطر” المشاريع الخضراء والمناخية لجذب رأس المال الخاص.
- الشراكات الرقمية (DPPPs) تخدم كلاً من VfP (الاستجابة للجائحة) و VfM (الكفاءة الرقمية).
لقد تحرك سوق الابتكار في الشراكات بالفعل في هذا الاتجاه. لم تعد الشراكة مجرد وسيلة لسد فجوات الميزانية. إنها، عند تصميمها بشكل مبتكر، أداة قوية لـ “تعبئة رأس المال لتحقيق أقصى قدر من التأثير”.
بالنسبة لمنطقة الخليج، التي تقف على أعتاب تحول تاريخي، فإن تبني هذه النماذج المبتكرة ليس خياراً، بل هو ضرورة لضمان أن تكون مشاريع الغد العملاقة ليست فقط مربحة مالياً (VfM)، ولكنها أيضاً غنية بالتأثير البشري (VfP) ومسؤولة بيئياً (VfPL).
مستقبل التنمية يُبنى اليوم عبر شراكات ذكية شاركنا برأيك: كيف يمكن لبلدك أو لشركتك أن تستفيد من هذه النماج المبتكرة لتحقيق تأثير حقيقي؟