لماذا نختار التفاؤل في عالم مليء بالتحديات؟

في عالمٍ تَتَزَاحَمُ فيه الأخبار الصعبة والتحديات اليومية، يبدو التفاؤل كشجرةٍ وارفةٍ تُظلِّلُنا وسط صحراء قاحلة.
لكن هل التفاؤل مجرد هروبٍ من الواقع، أم هو أداةٌ فعالةٌ لإعادة تشكيله؟
العلم الحديث يُجيب: التفاؤل ليس شعورًا عابرًا، بل هو فلسفة حياة قائمة على فهمٍ عميقٍ لكيفية تفاعل العقل مع الظروف.
فالمتفائلون لا ينتظرون الأفضلَ فحسب، بل يصنعونه بأدواتٍ نفسيةٍ وعلمية.

التفاؤل

 

التفاؤل من منظور علم النفس بين النظرية والتطبيق

لطالما حيَّر التفاؤلُ الباحثين في علم النفس الإيجابي.
فوفقًا لنظرية “مارتن سليجمان” عن “التفكير المكتسب”، يُعتبر التفاؤلُ نمطًا معرفيًّا يُمكن تطويره عبر إعادة برمجة تفسيرنا للأحداث.
حين يفشل شخصٌ ما في مقابلة عمل، قد يقول المتفائل: “هذه فرصةٌ لاكتشاف مهاراتي الناقصة”، بينما يردد المتشائم: “لا فائدة من المحاولة مجددًا”.

أما عن السؤال: “كيف يؤثر التفاؤل على كيمياء الدماغ؟”، فإن دراسات التصوير العصبي تشير إلى أن المتفائلين يظهرون نشاطًا أعلى في مناطق الفص الجبهي المسؤولة عن التخطيط واتخاذ القرارات، مما يزيد إفرازَ “الدوبامين”، الناقل العصبي المرتبط بالتحفيز والسعادة، بل إن بحثًا أجرته “جامعة هارفارد” (2021) وجد أن المتفائلين أقل عُرضةً للإصابة بأمراض القلب بنسبة 35% مقارنةً بغيرهم، بفضل تقليل هرمونات التوتر مثل الكورتيزول.

قصص ملهمة من زوايا العالم المظلمة

لنتخيل معًا: “نيلسون مانديلا” يقضي 27 عامًا في السجن، لكنه يَخْرُجُ ليصبح رئيسًا لبلدٍ مزَّقَتْه العنصرية، أو “ماري كوري” التي تحدَّت التمييز الجنسي في القرن التاسع عشر، وواصلت أبحاثها حتى حصلت على جائزة نوبل مرتين، ما السر؟ لقد حوَّلوا العقبات إلى سُلَّمٍ يصعدون عليه.
ولكن، ماذا عن الثقافات التي تعتبر التشاؤمَ جزءًا من هويتها؟ هنا يأتي دور “التفاؤل الواقعي”، الذي لا ينكر الصعوبات، بل يبحث عن الثغرات المضيئة فيها.
خُذْ مثالًا على ذلك الفلسفة اليابانية “إيكيغاي”، التي تجد هدف الحياة في التفاصيل الصغيرة، كاحتساء الشاي أو إصلاح دراجةٍ قديمة.

تفاءلوا فالعلم معكم!

هل تعلم أن “المناعة النفسية” للمتفائلين أقوى؟ في دراسةٍ أجرتها “جامعة ستانفورد” على مرضى السرطان، تبيَّن أن المرضى المتفائلين استجابوا للعلاج الكيميائي بنسبةٍ أفضلَ بلغت 50% مقارنةً بالمتشائمين.
التفسير؟ التفاؤلُ يعزز “الجهاز المناعي” عبر تنشيط الخلايا التائية التي تحارب الأمراض.
ولكن ماذا لو أخفقت كل المحاولات؟ هنا يبرز مفهوم “التفاؤل المرن”، الذي يعترف بالفشل كجزءٍ من الرحلة.
تخيل أنك تبني منزلًا من الورق، فتهب عليه رياحٌ عاتية، المتفائل المرن لا يبكي على الأوراق الممزقة، بل يبحث عن موادٍ أقوى، أو يُغيِّر موقع البناء.

كيف تُصبح مُتفائلًا في 5 خطوات عملية؟

1. التحول من “لماذا أنا؟” إلى “ماذا بعد؟”:
بدلًا من التركيز على أسباب المشكلة، ابحث عن الحلول.
2. ممارسة الامتنان اليومي:
اكتب ثلاثة أشياء إيجابية حدثت معك يوميًّا، حتى لو كانت بسيطةً كابتسامةِ غريبٍ.
3. تحدي الأفكار التشاؤمية:
اسأل نفسك: “هل هذه الفكرة واقعية؟ هل هناك أدلة تدعمها؟”.
4. الاستعانة بالاستعارة البصرية:
تخيل أنك قبطان سفينةٍ تواجه أمواجًا عاتية، لكنك تعرف أن الشمس ستشرق بعد العاصفة.
5. بناء شبكة داعمة:
أحِطْ نفسك بأشخاصٍ يُذكِّرونك بنقاط قوتك حين تنساها.

حدود التفاؤل عندما يتحول إلى سيفٍ ذي حدين

رغم فوائده، يُحذِّر علماء النفس من “التفاؤل السام”، الذي يُنكر المشاعر السلبية كالحزن أو الغضب. فكما يقول “كارل يونغ”: “ما نقاومه يستمر”.
لذلك، يجب أن يكون التفاؤل مصحوبًا بـ “الوعي العاطفي”، الذي يقبل المشاعر جميعًا دون إنكار.
خُذْ مثالًا على ذلك: شركةٌ ناشئة تُهمل تحذيرات السوق وتستثمر أموالها بناءً على تفاؤلٍ أعمى، فتنهار لاحقًا.
هنا، كان “التفاؤل الواعي” يتطلب دراسة المخاطر ووضع خططٍ بديلة.

الخاتمة:

التفاؤل ليس اختيارًا بل هو ثورةٌ على اليأس
في النهاية، التفاؤل ليس مجرد نظرةٍ وردية، بل هو “فنُّ تحويل التراب إلى زجاجٍ ملون”.
إنه القوة التي جعلت من طائر الفينيق أسطورةً تخرج من الرماد.
وكما كتب الشاعر أدونيس: “ربما تكون قد سقطت أوراق الخريف، لكن جذور الربيع لا تموت”. لذا، تفاءلوا، ليس لأن الحياة سهلة، بل لأنكم أقوياء بما يكفي لجعلها تستحق العناء.

إظهار التعليقاتإغلاق التعليقات

اترك تعليقا